حَيْث بَدَأَهُم أَوَّلَ مَرَةٍ يَعُوْدُوْن بِدَاْية > ● قَبَــسْ ..~ > ../ جان كوكتو ..~

../ جان كوكتو ..~

  هَذَا الْمَجْنون ....كُوْكْتو ..~

 

 

لَمْ يكُن عاديّاً .. هذا الرّجل _ المجنون _ ، لم تكُن رُؤاه قاصرة ، كان يُغمض عينيه ، يُطاول بإغماضتهِ سماوات الألق ؛ ليبهركَ بعدها بعملٍ فني فذّ .. لا تطويه الذَّاكرة ، و لا يستريح .

ولد ( جان كوكتو ) في الخامس من يوليو 1889م بقريةٍ صغيرة تقعُ بالقرب من ضواحي باريس ، وَضَعَ فيها لبنة ذاته الأولى ، مُرتكزاً على الانفتاح في عوالم الإبداع ، و الانغلاقِ على أناه في آن واحد .

فلسفته الذاتيّة التي كوّنها نتيجة المُعطيات التي تعامل معها في طفولتهِ ، حدتْ بهِ لأن يكون مُختلفاً يشعر بالأشياء و لا يراها ، يتحرر من نمطيّة الفكرة ، يصافح الخرافات ، و يبحر في أعماقهِ ليميل إلى الإغرابِ بشكلٍ يلحظهُ كلّ من جلس إليه في شقتهِ المعتمة ، ذات السقف المنخفض ، و الشبابيك المشرعة ، فهو يعمل بحجرة مظلمة ، ينبعث الضّوء فيها من مصباحٍ قائم ، خاوية من الأثاث إلا من سبورة يكتب عليها مواعيده ، و أدوات الكتابة و أكثر من غليون للتدخين . و ربما كان الإغراق في هذا السواد سببه نشأته المضطربة ،و خصوصاً بعد انتحار والده و هو في التاسعة من عمرهِ و تعلّقه الشّديد بأمهِ .

و رغم ذلكَ لم ينكفئ على ذاتهِ فتعلّم كيف يلتقط من مُحيطه بذرة لعملٍ أدبي مُبدع ، فكان لذاك الانتحار اليد الطّولى لإبداعهِ مسرحيّتهِ السّرياليّة «الآلة الجهنميّة» التي عُرضت للمرة الأولى سنة 1934 في قاعة "لوي جوفيه" جادة الشانزيليزيه ، و التي تحدّث فيها عن علاقة ( أوديبيّة ) تلكَ النظرية التي روّجَ لها عالم التحليل النفسي فرويد بأسطورتها التقليديّة و نهايتها المعروفة ؛ و لكنّه نجح فيها بالخروج على الأسطورة اليونانيّة إلى النقيض ، بمهارته العالية في الصّنعة و حسن الصّياغة . فقد جعل الآلهة تبدو كآلة جهنمية حاقدة على الإنسان ، و هو فيها خَلَطَ العديد من المذاهب الأدبية . و أوحى "جان ماريه" الممثل المغمور _ حينها _ أيضاً لكوكتو بمسرحيّة « الآباء الفضعاء » عندما التقاه سنة 1937م ، بنظرةٍ تتجلى فيها سمات المسرح الواقعي ، و التي قُدمت بعد عامٍ من لقائهما وقد تقمص فيها دور شاب يعبر عن ردود أفعال أبناء عصره حول واقعٍ مُتخبطٍ يعيشونه ، وهيّ ذاتها المسرحيّة التي افتتحت بها الفرقة الفرنسيّة موسمها في دار الأوبرا المصرية عام 1949م. و التي قدّم إلى جانبها في ذلك الموسم« الآلة الجهنميّة »و «الوحوش المقدسة »، و التي تعد من أهم ما كتب كوكتو .

أمّا عن أناه ، فوصفها في إحدى المًُقابلات قائلاً: " أنا شاعر، أنا كاتب، كما أنني أرسم أيضا وأصنع معابد، وقد أفقد لياقة الشّاعر حين أمارس أعمالاً أخرى، أنا إنسان ينتسب إلى اللامكان". و لا ينتسب له الكسل . و قال مفاضلاً بين الرَّسمِ و الشّعر بنظرتهِ المُتأملة _ كالعادة _ : " الشّعراء لا يرسمون، إنهم يفككون الكتابة ثم يعيدون تركيبها بشكل آخر" ؛ و كأنّه يقول هنا بأنَّ الرّسم بِذْرةٌ أُولى لم يَمسسها فكرٌ من قبل. و قد أثّرت فيه اطلاعاته الفنيّة الواسعة ، و اختلاطه بالكثير من المبدعين و منهم الرسام الشهير "بيكاسو" الذي قال عنه كوكتو : "دفعني لأن أركض أسرع نحو الجمال, لذلك يبدو وكأنّك تعود إليه" .

توفيّ جان كوكتو في الحادي عشر من أكتوبر من عام 1963 م بعد ساعاتٍ قليلة من سماعهِ لنبأ وفاة صديقته المغنيّة الفرنسيّة " أديث بياف " ، تاركاً وراءه ثروة غنيّة للأدب جعلته يبقى حاضراً معنا بمسرحهِ، بشعرهِ، برواياتهِ، بنقدهِ، بلوحاتهِ، بمنحوتاتهِ، بموسيقاه، بالدّيكورات التّي صممها، بالرّقصات التي رتبت الخُطى ، فهو الأسطورة الفرنسيّة التي لن تموت .

 

  

اتْـرك أَثَـرَك